بروتيوس والتحول

موضوع النهاردة قريب جدًا من قلبي لأنه هيكون عن شخصيتي المفضلة في الأساطير الإغريقية: بروتيوس Proteus…

بروتيوس من الشخصيات الغامضة لأنه ظهر في أكتر من أسطورة وكل مرة كان يُشار إليه بشكل مختلف، وعلى الرغم من غرابة الموضوع إلا إنه ملائم جدًا لطبيعة الشخصية وهنفهم ليه دلوقتي.

يُقال إن بروتيوس من الآلهة الأولى القديمة – أقدم من زيوس واللي جابوه – خصوصًا أن اسمه مشتق من كلمة proto بمعنى “أول” أو “أولي”، ويُقال إنه أحد أتباع بوسيدون إله البحر، ويقال برضه إنه ابنه الأول قبل ترايتون. المهم إن كل الأساطير بتشترك في وصف بروتيوس بأنه بيمتلك المعرفة الكاملة عن الكون وعن الماضي والحاضر والمستقبل وبتشير لقدرته على التحول لأي شكل.. ولنا هنا وقفة.

قدرة بروتيوس على التحول لأي مادة أو حيوان أو إنسان (مياه، نار، شجرة، أسد، تعبان.. أي هباب أزرق) مش علامة دالة على الخديعة، على الرغم إنها جزء من شخصيته برضه، ولكنها بتدل على التنوع وسرعة التأقلم اللي هم من صفات الكون والطبيعة ككل. ده غير إن القدرة دي ليها بعد فلسفي ونفسي قائم على إن الوصول للحكمة بيعتمد أولاً وأخيرًا على مقدرة الإنسان على التأقلم مع المتغيرات وفهمها والتمسك بالجوهر على الرغم من تغير المظهر.

يعني مثلاً في الأوديسة، مينلاوس Menelaus – اللي هو زوج هيلين بتاعت طروادة – بيضطر يقابل بروتيوس أثناء عودته من الحرب وتحطم سفينته علشان يعرف سبب غضب الآلهة عليه وإزاي يرجع بلده تاني. طبعًا مقابلة بروتيوس ومعرفة المعلومات دي منه مكانتش بالسهولة دي لأن مينلاوس كان لازم يأسر بروتيوس اللي كان كل ما مينلاوس يجي يمسكه يتحول لأسد.. يمسك الأسد، يتحول لتعبان.. يمسك التعبان، يتحول لدب.. يمسك الدب، يتحول لشوية مياه.. وهكذا. مينلاوس طلع عين أهله بس في النهاية نجح في التمسك ببروتيوس وإجباره على البوح بحكمته.

برضه يُقال إن من المصاعب الاثنى عشر اللي كان لازم هرقل Hercules يمر بيها للتكفير عن قتله لمراته وولاده هو أنه يحارب بروتيوس وينتصر عليه. مشكلة بروتيوس مكانتش في قوته على قد ما كانت في قدرته على التحول لأشكال كتير وبسرعة لدرجة أن هرقل وجد صعوبة كبيرة في أنه يعرف يمسكه أصلاً.

بروتيوس بعد كده بقى يستخدم كمثال للتحول في الأدب، يعني مثلاً شكسبير في مسرحيته الكوميدية The Two Gentlemen of Verona أطلق على اسم شخصية بروتيوس لأن مشاعره كانت متحولة وكل شوية يحب واحدة.

ده غير أنه بقى يستخدم في الطب برضه، يعني فيه متلازمة اسمها Proteus Syndrome ودي بتبقى اضطراب جيني بيؤدي لنمو أنسجة العضم والجلد فبتخلي شكل وجسم الإنسان يختلف خالص، وكمان فيه باكتيريا بتحمل اسم بروتيوس لقدرتها على التحول السريع والتأقلم مع أي بيئة بتنتشر فيها.

لغويًا، الصفة protean واللي بتشير إلى أي شيء قادر على التنوع والتأقلم والتغير مشتقة من شخصية بروتيوس Proteus ، وبتجمع بين ال metamorphosis والmutability.

ده غير إن في علم النفس كارل يونج Carl Jung استخدم أسطورة بروتيوس للإشارة للUnconscious أو اللاوعي. اللاوعي بيحتوى على مجمل تجارب الإنسان ومشاعره – زي ما بروتيوس عنده المعرفة بكل شيء – ولكنه بيظهر نفسه بأشكال متنوعة ومتحولة في الأحلام وردود الأفعال والحركات اللإرادية وزلات اللسان وغيره – بالظبط زي ما بروتيوس بيتحول لأي حاجة غير شكله الأصلي – والوصول إليه بيحتاج لصبر ومثابرة والقدرة على تخطى الأعراض وتفسيرها من أجل الوصول للجوهر وده اللي بيعمله العلاج بالتحليل النفسي Psychotherapy وده بالظبط اللي عمله ميلانوس وهرقل من أجل الوصول لبروتيوس.

على الرغم من غرابتها إلا أن شخصية بروتيوس بالنسبة لي بتمثل جانب فلسفي رومانسي عبقري قائم على إن كل شيء في الكون، بما فيه الإنسان، بيعتمد على التحول من أجل البقاء.. الطبيعة بتجبر نفسها بكل مكوناتها على التحول والتأقلم، الإنسان لازم “يتحول” علشان ينمو جسديًا وفكريًا والثبات والاستقرار اللي الإنسان بيسعى إليه في نفسه وفي البيئة اللي حواليه ما هو إلا صورة متغيرة مصيرها التحول، ودي قد تبدو فكرة مقبضة لكتير من الناس ولكن أنا بشوفها قمة الرومانسية بمعناها المطلق..

فكرة التعلق بأي شيء في صميمها محتاجة التحول لأن التعلق تمسك وثبات ومش هيظهر إلا بوجود الضد وهو التحول، يعني علشان الإنسان يتعلق بفكرة أو بإنسان آخر فهو محتاج تغيرات وتحولات علشان فعلاً يثبت إنه متمسك بالفكرة دي أو الشخص ده.

قدرتنا على المرور بتقلبات الحياة وتقبلها بيدل على تمسكنا بجوهر الحياة، وقدرتنا على فهم الآخر والتمسك بيه على الرغم من التغيرات اللي بيمر بيها هو من أسمى صور الحب.

ميلانوس فضل متمسك ببروتيوس برغم تحولاته لأنه كان عايز يرجع بيته وده كان جوهر الحياة الثابت بالنسبة له.. وأعتقد إن كلنا عندنا نفس الرغبة دي سواء كان الجوهر أو البيت اللي هنرجعله ده فكرة أو مكان أو شخص.


رأيان حول “بروتيوس والتحول

اترك رد